قوله تعالى: { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ }إلى آخرها أخلصت هذه السورة للوعد والوعيد والتهديد, وكفى بها موعظة لمن عقلها. فقوله تعالى:{ أَلْهَاكُمُ } أي شغلكم على وجه لا تعذرون فيه فإن الإلهاء عن الشيء هو الاشتغال عنه. فإن كان بقصد فهو محل التكليف, وإن كان بغير قصد كقوله صلى الله عليه وسلّم في الخميصة:" إنها ألهتني آنفا عن صلاتي" البخاري في الصلاة 1\575, ومسلم1\391 وأبو داود. كان صاحبه معذورا وهو نوع من النسيان. وفي الحديث " فلها صلى الله عليه وسلم عن الصبي" أي ذهل عنه, ويقال: لها بالشيء, أي اشتغل به. ولها عنه: إذا انصرف عنه. واللهو للقلب واللعب للجوارح, ولهذا يجمع بينهما. ولهذا كان قوله:{ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } أبلغ في الذم من شغلكم. فإن العامل قد يستعمل جوارحه بما يعمل وقلبه غير لاه به. فاللهو هو ذهول وإعراض. والتكاثر تفعل من الكثرة أي مكاثرة بعضكم لبعض وأعرض عن ذكر المتكاثر به إرادة لإطلاقه وعمومه أن كل ما يكاثر به العبد غيره سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه بنفع معاده فهو داخل في هذا التكاثر. فالتكاثر في كل شيء من مال أو جاه أو رياسة أو نسوة أو حديث أوعلم, ولا سيّما إذا لم يحتج إليه. والتكاثر في الكتب والتصانيف وكثرة المسائل وتفريعها وتوليدها. والتكاثر أن يطلب الرجل أن يكون أكثر من غيره, وهذا مذموم إلا فيما يقرّب إلى الله, فالتكاثر فيه منافسة للخيرات ومسابقة إليها.وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الشخير أنه: انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } قال: "يقول ابن آدم: مالي مالي, وهل لك من مالك إلا ما تصدّقت فأمضيت, أو أكلت فأفنيت, أو لبست فأبليت.
تنبيه
من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه.للعبد ستر بينه وبين الله, وستر بينه وبين الناس, فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله, هتك الستر الذي بينه وبين الناس.للعبد رب هو ملاقيه وبيت هو ساكنه, فينبغي له أن يسترضي ربّه قبل لقائه ويعمّر بيته قبل انتقاله إليه.إضاعة الوقت أشد من الموت, لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة, والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها.الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غم ساعة, فكيف بغم العمر.محبوب اليوم يعقبه المكروه غدا, ومكروه اليوم يعقبه المحبوب غدا.أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها.كيف يكون عاقلا من باع الجنّة بما فيها شهوة ساعة.يخرج العرف من الدنيا ولم يقضي وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه, وثناؤه على ربّه.المخلوق إذا خفته استوحشت منه وهربت منه, والرب تعالى إذا خفته أنست به وقربت إليه.لو نفع العلم بما عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين.دافع الخطرة, فإن لم تفعل صارت فكرة. فدافع الفكرة, فان لم نفعل صارت شهوة. فحاربها, فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمّة, فإن لم تدافعها صارت فعلا, فإن لم تتداركها بضدّه صار عادة فيصعب عليك الانتقال عنها.
التقوى ثلاث مراتب:
إحداها: حمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرّمات.
الثانية: حميتها عن المكروهات.
الثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يعني.
فالأولى تعطي العبد حياته, والثانية تفيد صحته وقوته, والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته.
غموض الحق حين تذب عنه يقلل ناصر الخصم المحق
ضل عن الدقيق فهوم قوم فتقضي للمجلّ على المدقّ
بالله أبلغ ما أسعى وأدركه لا بي ولا بشفيع لي من الناس
إذا أيست وكاد اليأس يقطعني جاء الرجاء مسرعا من جانب اليأس
من خلقه الله للجنّة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره, ومن خلقه الله للنار لم تزل هداياها تأتيه من الشهوات.لما طلب آدم الخلود في الجنة من جانب الشجرة عوقب بالخروج منها. اقرأ الآيات 19-24من سورة الأعراف.ولما طلب يوسف الخروج من السجن من جهة صاحب الرؤية لبث فيها بضع سنين.اقرأ يوسف آية 42.
إذا جرى على العبد مقدور يكرهه فله فيه ستّة مشاهد:
الأوّل: مشهد التوحيد, وأن الله هو الذي قدّره وشاءه وخلقه, وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
الثاني: مشهد العدل, وأنه ماض فيه حكمه, عدل فيه قضاؤه.
الثالث: مشهد الرحمة, وأن رحمته في هذا المقدور غالبه لغضبه وانتقامه, ورحمته حشوه أي ظاهره بلاء وباطنه رحمة.
الرابع: مشهد الحكمة, وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك, لم يقدّره سدى ولا قضاه عبثا.
الخامس: مشهد الحمد, وأن له سبحانه الحمد التام على ذلك من جميع وجوهه.
السادس: مشهد العبوديّة, وأنه عبد محض من كل وجه تجري عليه أحكام سيّده وأقضيته بحكم كونه ملكه وعبده, فيصرفه تحت أحكامه القدريّة كما يصرفه تحت أحكامه الدينيّة, فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه.
قلّة التوفيق وفساد الرأي, وخفاء الحق, وفساد القلب, وخمول الذكر, وإضاعة الوقت, ونفرة الخلق, والوحشة بين العبد وبين ربّه, ومنع إجابة الدعاء, وقسوة القلب, ومحق البركة في الرزق والعمر, وحرمان العلم, ولباس الذل, وإهانة العدو, وضيق الصدر, والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت, وطول الهم والغم, وضنك المعيشة, وكسف البال... تتولّد من المعصية والغفلة عن ذكر الله, كما يتولّد الزرع عن الماء, والإحراق عن النار. وأضداد هذه تتولّد عن الطاعة