ألقى الله سبحانه العداوة بين الشيطان وبين الملك, والعداوة بين العقل وبين الهوى, والعداوة بين النفس الأمارة وبين القلب. وابتلى العبد بذلك وجمع له بين هؤلاء, وأمد كل حزب بجنود وأعوان, فلا تزال الحرب سجالا ودولا بين الفريقين, إلى أن يستولي أحدهما على الآخر, ويكون الآخر مقهورا معه. فإذا كانت التوبة للقلب والعقل والملك فهنالك السرور والنعيم واللذة والبهجة والفرح قرة العين وطيب الحياة وانشراح الصدر والفوز بالغنائم. وإذا كانت النوبة للنفس والهوى والشيطان فهنالك الغموم والهموم والأحزان وأنواع المكاره وضيق الصدر وحبس الملك. فما ظنك بملك استولى عليه عدوه فأنزله عن سرير ملكه وأسره وحبسه وحال بينه وبين خزائنه وذخائره وخدمه وصيّرها له, ومع هذا فلا يتحرك الملك لطلب ثأره, ولا يستغيث بمن يغيثه, ولا يستنجد بمن ينجده. وفوق هذا الملك ملك قاهر لا يقهر, وغالب لا يغلب, وعزيز لا يذل, فأرسل إليه: إن استنصرتني نصرتك, وإن استغثت بي أغثتك, وإن التجأت إلي أخذت بثأرك, وإن هربت إلي وأويت إلي سلطتك على عدوك وجعلته تحت أسرك. فإن قال هذا الملك المأسور: قد شد عدوي وثاقي وأحكم رباطي, واستوثق مني بالقيود, ومنعني من النهوض إليك, والفرار إليك, والمسير إلى بابك, فإن أرسلت جندا من عندك يحل وثاقي, ويفك قيودي, ويخرجني من حبسه, أمكنني أن أوافي بابك, وإلا لم يمكنني مفارقة محبسي, ولا كسر قيودي.
فإن قال ذلك احتجاجا على ذلك السلطان, ودفعا لرسالته, ورضا بما هو فيه عند عدوّه, خلاه السلطان الأعظم وحاله وولاه ما تولى. وإن قال ذلك افتقارا إليه, وإظهارا لعجزه وذله, وأنه أضعف وأعجز من أن يسير إليه بنفسه, ويخرج من حبس عدوه, ويتخلص منه بحوله وقوته, وأن من تمام نعمة ذلك عليه, كما أرسل إليه هذه الرسالة, أن يمده من جنده ومماليكه بمن يعينه على الخلاص, ويكسر باب محبسه, ويفك قيوده. فإن فعل به ذلك فقد أتم إنعامه عليه, وإن تخلى عنه, فلم يظلمه, ولا منعه حقا هو له, وأن حمده وحكمته اقتضى منعه وتخليته في محبسه, ولا سيما إذا علم أن الحبس حبسه, وأن هذا العدو الذي حبسه مملوك من مماليكه, وعبد من عبيده, ناصيته بيده لا يتصرف إلا بإذنه ومشيئته, فهو غير ملتفت إليه, ولا خائف منه, ولا معتقد أن له شيئا من الأمر, ولا بيده نفع ولا ضر, بل هو ناظر إلى مالكه, ومتولي أمره ومن ناصيته بيده, وقد أفرده بالخوف والرجاء, والتضرّع إليه والالتجاء, والرغبة والرهبة, فهناك تأتيه جيوش النصر والظفر.
أعلى الهمم في طلب العلم , طلب علم الكتاب والسنة, والفهم عن الله ورسوله نفس المراد, وعلم حدود المنزل. وأخّس همم طلاب العلم, قصر همته على تتبع شواذ المسائل, وما لم ينزل, ولا هو واقع, أو كانت همته معرفة الاختلاف, وتتبع أقوال الناس, وليس له همة إلى معرفة الصحيح من تلك الأقوال. وقلّ أن ينتفع واحد من هؤلاء بعلمه. وأعلى الهمم في باب الإرادة أن تكون الهمة متعلقة بمحبة الله والوقوف مع مراده الديني الأمري. وأسفلها أن تكون الهمة واقفة مع مراد صاحبها من الله, فهو إنما يعبد لمراده منه لا لمراد الله منه, فالأول يريد الله ويريد مراده, والثاني: يريد من الله وهو فارغ عن إرادته.
علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم, فكلما قالت أقوالهم للناس: هلمّوا: قالت أفعالهم:لا تسمعوا منهم. فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له, فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطّاع طرق. إذا كان الله وحده حظك ومرادك فالفضل كله تابع لك يزدلف إليك, أي أنواعه تبدأ به, وإذا كان حظك ما تنال منه, فالفضل موقوف عنك لأنه بيده تابع له, فعل من أفعاله, فإذا حصل لك, حصل لك الفضل بطريق الضمن والتبع, وإذا كان الفضل مقصودك, لم يحصل الله بطريق الضمن والتبع, فإن كنت قد عرفته, وأنست به, ثم سقطت إلى طلب الفضل, حرمك إياه عقوبة لك ففاتك الله وفاتك الفضل.