سُنَنُ قَوْلِيَّةً وَفِعْلِيَّةً فِي شُرِبِ الْمَاءِ
إِنْ شُرِبَ الْمَاءِ لَهُ سُنَنُ قَوْلِيَّةً وَفِعْلِيَّةً :
أَمَّا الْقَوْلِيَّةِ : فَأنٍ يُسَمِّيَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ ؛
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : يَجِبُ أَنْ يُسَمِّيَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ لِئَلَّا يُشَارِكَهُ الْشَّيْطَانُ فِيْ شُرْبِهِ ، كَذَلِكَ أَيْضا انَّهُ إِذَا انْتَهَىَ حَمِدَ الْلَّهَ .
أَمَا الْسُّنَنُ الْفِعْلِيَّةِ : فَانَّهُ يَتَنَفَّسُ ثَلَاثٍ مَرَّاتٍ وَيُفَصَّلُ الْإِنَاءِ عَنْ فَمِهِ فِيْ كُلِّ مَرَّةٍ ،
فَإنَّهُ إِذَا تَنَفَّسَ ثَلَاثٍ مَرَّاتٍ أهْنَأُ وَأَبْرَأُ وَأمْرَأَ فِيْهِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ :
الْهَنَاءُ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الْظَّمَأُ ،وَانْهَ يَكُوْنُ أمْرَأَ وأسْهَلُ لِّخُرُوْجِهِ وَهَضْمُهُ .
وَمَنْ الْسَنَنِ الْفِعْلِيَّةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمُصُّ الْمَاءَ مَصّا كَمَا يَمَصُّ الْصَّبِيُّ الْلَّبِنَ مِنْ الْثُّدِيِّ :
مِنْ أجْلِ أَنَّ يُنَزِّلُ إِلَىَ الْمَعِدَةِ شَيْئا فَشَيْئا وَيَكْتَسِبُ مِنْ حَرَارَةِ الْفَمِ مَا يَجْعَلُهُ مُنَاسِبا لِلْمَعِدَةِ حَتَّىَ لَا يَنْزِلَ إِلَىَ الْمَعِدَةِ وَهُوَ بَارِدُ جَدَّا فَيُؤْثِرُ عَلَيْهَا وَلَاسِيَّمَا مَعَ الْعَطَشِ الْشَّدِيْدِ ، فَانٍ الْعَطَشِ الْشَّدِيْدِ يَرْفَعُ حَرَارَةَ الْمَعِدَةِ فَإِذَا نَزَلَ إِلَيْهَا الْمَاءْ الْبَارِد دُفْعَةً وَاحِدَةً تُبَرِّدُ ،
فَيَنْبَغِيْ فِيْ شُرْبِ الْمَاءِ أَنْ يَمُصَّهُ مَصّا ، أَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ فَيَعْبِهُ عَبّا كَالَلَّبَنِ وَالْمَرَقِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ،
عَنْ أَنَسٍ : {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا} . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ : {كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا وَيَقُولُ : إنَّهُ أَرْوَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ} رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : {إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ :{نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ} . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ : {نَهَى عَنْ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ ، فَقَالَ رَجُلٌ : الْقَذَاةُ أَرَاهَا فِي الْإِنَاءِ ؟ فَقَالَ : أَرِقْهَا ، فَقَالَ : إنِّي لَا أُرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : فَأَبِنْ الْقَدَحَ إذًا عَنْ فِيك} رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ
قَوْلُهُ : (كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا) حَمَلَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَنَّهُ يَقَعُ التَّنَفُّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا ،
وَقَالَ : فَعَلَ ذَلِكَ لِيُبَيِّنَ بِهِ جَوَازَ ذَلِكَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ عَلَّلَ جَوَازَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُتَقَذَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ ، بَلْ الَّذِي يُتَقَذَّرُ مِنْ غَيْرِهِ يُسْتَطَابُ مِنْهُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا إذَا بَزَقَ أَوْ تَنَخَّعَ يُدَلِّكُونَ بِذَلِكَ ، وَإِذَا تَوَضَّأَ اقْتَتَلُوا عَلَى فَضْلَةِ وَضُوئِهِ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَحَمْلُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِصَحِيحٍ بِدَلِيلِ بَقِيَّتِهِ فَإِنَّهُ قَالَ : إنَّهُ أَرْوَى وَأَمْرَأُ .
وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد "وَأَبْرَأُ"
وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأُمُورِ إنَّمَا تَحْصُلُ بِأَنْ يَشْرَبَ ثَلَاثَةَ أَنْفَاسٍ خَارِجَ الْقَدَحِ ، فَأَمَّا إذَا تَنَفَّسَ فِي الْمَاءِ وَهُوَ يَشْرَبُ فَلَا يَأْمَنُ الشَّرَقَ . وَقَدْ لَا يُرْوَى ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَ الْحَدِيثَ الْجُمْهُورُ نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى ،
وَلِبَقِيَّةِ الْحَدِيثِ وَلِلنَّهْيِ عَنْ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاءِ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ .
وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ : "فَأَبِنْ الْقَدَحَ إذَا" ،
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمِنْ بَابِ النَّظَافَةِ وَمَا كَانَ النَّبِيُّ يَأْمُرُ بِشَيْءٍ ثُمَّ لَا يَفْعَلُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَقْذَرْ مِنْهُ ،
وَأَهْنَأُ وَأَمْرَأُ ، مِنْ قَوْله تَعَالَى : {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} ،
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ : كَانَ إذَا شَرِبَ تَنَفَّسَ فِي الشَّرَابِ مِنْ الْإِنَاءِ ثَلَاثًا . وَمَعْنَى أَرْوَى : أَيْ أَكْثَرُ رِيًّا
وَأَبْرَأُ مَهْمُوزٌ : أَيْ أَسْلَمُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ أَذًى يَحْصُلُ بِسَبَبِ الشُّرْبِ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ ،
وَأَمْرَأُ : أَيْ أَكْمَلُ انْسِيَاغًا . وَقِيلَ : إذَا نَزَلَ مِنْ الْمَرِيءِ الَّذِي فِي رَأْسِ الْمَعِدَةِ فَيُمْرِئُ فِي الْجَسَدِ مِنْهَا .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد بِزِيَادَةِ أَهْنَأُ ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَأْتِ بِمَشَقَّةٍ وَلَا عَنَاءٍ فَهُوَ هَنِيءٌ ،
وَيُقَالُ : هَنَّأَنِي الطَّعَامُ فَهُوَ هَنِيُّ : أَيْ لَا إثْمَ فِيهِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَهْنَأُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِمَعْنَى أَرْوَى .
قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ : وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى مَا يُدْعَى لِلشَّارِبِ بِهِ عَقِبَ الشَّرَابِ فَيُقَالُ لَهُ عَقِبَ الشَّرَابِ - هَنِيئًا مَرِيئًا -
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي الدُّعَاءِ لِلشَّارِبِ : صِحَّةٌ بِكَسْرِ الصَّادِ فَلَمْ أَجِدْ لَهُ أَصْلًا فِي السُّنَّةِ مَسْطُورًا بَلْ نَقَلَ لِي بَعْضُ طَلَبَةِ الدِّمَشْقِيِّينَ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَّتِي شَرِبَتْ دَمَهُ أَوْ بَوْلَهُ صِحَّةٌ ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَلَا كَلَامَ انْتَهَى .
قَوْلُهُ : (فَلَا يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ) النَّهْيُ عَنْ التَّنَفُّسِ فِي الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ لِئَلَّا يَخْرُجَ مِنْ الْفَمِ بُزَاقٌ يَسْتَقْذِرُهُ مَنْ شَرِبَ بَعْدَهُ مِنْهُ أَوْ تَحْصُلُ فِيهِ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَاءِ أَوْ بِالْإِنَاءِ ،
وَعَلَى هَذَا فَإِذَا لَمْ يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ فَلْيَشْرَبْ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ ، قَالَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَأَجَازَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ،
وَكَرِهَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ ،
وَرِوَايَةُ عِكْرِمَةَ وَطَاوُوسٍ وَقَالُوا : "هُوَ شُرْبُ الشَّيْطَانِ"
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ لِلَّذِي قَالَ لَهُ إنَّهُ لَا يُرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ "أَبِنْ الْقَدَحَ عَنْ فِيكَ"
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُ الشُّرْبَ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ إذَا كَانَ يُرْوَى مِنْهُ ، وَكَمَا لَا يُتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ لَا يُتَجَشَّأُ فِيهِ بَلْ يُنَحِّيهِ عَنْ فِيهِ مَعَ الْحَمْدِ لِلَّهِ وَيَرُدُّهُ إلَى فِيهِ مَعَ التَّسْمِيَةِ فَيَتَنَفَّسُ ثَلَاثًا يَحْمَدُ اللَّهَ فِي آخِرِ كُلِّ نَفَسٍ وَيُسَمِّي اللَّهَ فِي أَوَّلِهِ .
قَوْلُهُ : ( أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ ) أَيْ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي يُشْرَبُ مِنْهُ ، وَالْإِنَاءُ يَشْمَلُ إنَاءُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابُ فَلَا يُنْفَخُ فِي الْإِنَاءِ لِيَذْهَبَ مَا فِي الْمَاءِ مِنْ قَذَارَةٍ وَنَحْوِهَا ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو النَّفْخُ غَالِبًا مِنْ بُزَاقٍ يُسْتَقْذَرُ مِنْهُ ، وَكَذَا لَا يُنْفَخُ فِي الْإِنَاءِ لِتَبْرِيدِ الطَّعَامِ الْحَارِّ ، بَلْ يَصْبِرُ إلَى أَنْ يَبْرُدَ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا يَأْكُلُهُ حَارًّا فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَذْهَبُ مِنْهُ وَهُوَ شَرَابُ أَهْلِ النَّارِ .
وَفِيْ الْحَدِيْثِ دَلِيْلُ عَلَىَ شُمُوْلِ الْشَرِيعَةٌ الْإِسْلَامِيَّةِ ،
وَأَنَّهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ مَا تَرَكْتُ شَيْئا إِلَّا بَيَّنْتُهُ لِلْنَّاسِ ،
فَنَسْأَلُ الْلَّهَ أَنْ يُثَبِّتَنَا وَإِيَّاكُمْ عَلَيْهَا وَانْ يَرْزُقَنَا وَإِيَّاكُمْ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِيْ الْدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ .